الحمد لله الغني الكريم، الوهاب الرحيم، الذي أغنى وأقنى، وأنعم وأولى، وأعطى وأسدى، وأفضل وأجزل، فسبحانه ما أكثر مِننه على عباده، وما أعظم كرمه وجوده، وأوسع غناه وسخاءه، لا ينفد ما عنده ولو أعطى كلَّ عبد من عباده ما سأل، وهو القائل جل وعلا-في الحديث القدسي-: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)[2].
أشهد إلا إله إلا هو، إله كريم يحب الكرم، جواد يجب الجود، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ المدى فيما سخا وأنفق، وبذل في الخير وتصدق، أعطى عطاء من لا يخشى الفقر، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102] ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَآ أَيَّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَقُولُواْ قَولاً سَدِيداً* يُصلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَ يَغْفِرْ لِكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيمَاً ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أفضل الهدي هدي محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الصائمون الفضلاء، اعلموا- رحمني الله وإياكم- أن شهر رمضان شهر الخيرات والبركات، وموسم المسارعة إلى الطاعات والقربات.
يتنقل المسلم في رياضه من خير إلى خير، ومن بر إلى بر، ومن نعمة إلى نعمة، ومن أجر إلى أجر. فلله الحمد والشكر.
فمما يزخر به هذا الشهر الكريم من الطاعات: طاعة الجود بالصدقات، وبذل المال في سبل البر والخيرات، وما أحوج الصائمين الفقراء إلى من يعينهم بسخائه ليكملوا عدة رمضان وقد حمدوا نزوله عليهم، فأقبلوا على الطاعات وقد خُفف عنهم همّ المعيشة، وأُعينوا على التفرغ لإدراك فضائل رمضان.
والله إنها لسعادة كبيرة لك أيها الغني، عندما ترى مسلماً أعنته على طاعة الله بمالك فأصبح يتقرب إلى الله تعالى خالي البال من هموم الحاجة والعوز، فكيف لو رأيته متفرغاً للقيام والقراءة والإقبال على العبادة في هذا الشهر الغالي وأنت سبب ذلك؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير فقد غزا )[3].
وقال: (من فطر صائماً كتب له مثل أجره، لا ينقص من أجره شيء)[4].
هذا العمل من أحب الأعمال إلى الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تطرد عنه جوعا، أو تقضي عنه دينا)[5].
أيها المسلمون، إن الله تعالى كريم ويحب من عباده أن يتصفوا بصفة الكرم، ومظاهر كرم الله تعالى وجوده لا تعد ولا تحصى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى جواد يحب الجود، و يحب معالي الأخلاق، و يكره سفسافها)[6].
فمن مظاهر كرم الله تعالى بين عباده: ما تفضل به عليهم من الخير في شهر رمضان: عبادات متعددة، وأجور مضاعفة، ومغفرة ورحمة، وقبول وعتق من النار.
فيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
عباد الله، إن النفس البشرية مطبوعة على حب المال والاستئثار به، فإذا طُلب منها فقد تشح به ولا تعطيه، لكن النفس المسلمة إذا دُعيت إلى البذل في مراضي الله تعالى فلا تبخل؛ لأنها ترجو الأجر على ذلك من الله تعالى، ولها في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، الذي كان أكرم الخلق وأسخاهم مع قلة ذات يده.
فلقد كان الجود ديدن رسول الله عليه الصلاة والسلام وصفته الملازمة له في كل شهور العام، غير أن جوده في رمضان كان يتضاعف ويكثر.
ويحكي لنا ابن عباس رضي الله عنهما صورة من صور دوام جود نبينا عليه الصلاة والسلام وإسراعه إلى العطاء الكثير فيقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة)[7].
إن جود رسول الله عليه الصلاة والسلام يزداد في رمضان لمناسبة الزمان والحال، فحينما رأى رسول الله عليه الصلاة والسلام جود الله على عباده في هذا الشهر المبارك دعاه ذلك إلى مزيد من البذل، فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه، والكرم يذِّكر بالكرم.
وازداد جود رسول الله في الشهر؛ طلباً لزيادة الحسنات؛ فإن الأجور في رمضان مضاعفة على غيره.
وتضاعف جود رسول الله عليه الصلاة والسلام وسخاؤه في رمضان لأن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله عز و جل لمن أطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام)[8].
وهذه الأعمال تجتمع في رمضان.
ويتضاعف جود رسول الله لمجالسته جبريل عليه السلام؛ فإن لقاء الصالحين يرغب في الخير، وفي الاقتداء بأهله.
وهناك سبب عظيم آخر وهو: مدارسة القرآن؛ فلتأثره بكتاب الله بكثرة قراءته زاد كرمه؛ عملاً به؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان خلقه القرآن، كأنه قرآن يسير على وجه الأرض؛ لتطبيقه ما يحث عليه كتاب الله الكريم.
أيها الأحباب الكرام، لقد كانت صفة الجود والكرم خلقاً ثابتاً في شخصية النبي عليه الصلاة والسلام حتى قبل البعثة، قالت له خديجة رضي الله عنها: " أبشر؛ فوالله لا يخزيك الله أبدا، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَل، وتُكسِب المعدوم، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"[9].
وما سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء لا يخشى الفاقة[10].
وقال صفوان بن أمية: "والله لقد أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي"[11].
وفي غزوة حنين يوزع رسول الله غنائمها بين الناس ولم يبق لنفسه شيئاً، مع كثرة الغنائم، ثم يقول: (لو كان عدد هذه العضاه نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا)[12].
ويلخص ابن القيم رحمه الله جود نبينا عليه الصلاة والسلام فيقول: "كان صلى الله عليه و سلم أعظم الناس صدقة بما ملكت يده، وكان لا يستكثر شيئاً أعطاه لله تعالى ولا يستقله، وكان لا يسأله أحد شيئا عنده إلا أعطاه قليلا كان أو كثيرا، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر، وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه: تارة بطعامه، وتارة بلباسه، وكان ينوع في أصناف عطائه وصدقته: فتارة بالهبة، وتارة بالصدقة، وتارة بالهدية، وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعا كما فعل ببعير جابر، وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه وأفضل وأكبر، ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه، ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها؛ تلطفا وتنوعا في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن، وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة ويحض عليها، ويدعو إليها بحاله وقوله، فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء، وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى".
هذا –يا عباد الله- مع فقره وقلة ما عنده، فكيف لو كان ذا سعة وغنى؟