~الدليل الثاني والعشرون~
من أدلة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الحوار العجيب الذي كان
بين هرقل عظيم الروم وبين سيد مكة ابي سفيان رضي الله عنه - وكان حينها
قائد المشركين - وهذا الحوار حصل قبل فتح مكة بسنة تقريبا ….. وهرقل
بالإضافة إلى كونه حاكما للدولة الرومانية في الشام فإنه كان أيضا عالما
بدين النصارى وبالنبؤات التي تُبشر بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ……
وهذه القصة العظيمة التي حدثت بين هرقل وأبي سفيان رواها البخاري ومسلم
وأبو داود والإمام أحمد ووردت في عدد من كتب السنة، وفيما يلي نص هذه القصة
كما جاءت في صحيح البخاري، وما بين القوسين فهي زيادات من الروايات الأخرى :
روى البخاري عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلامِ وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ
وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ.
وَكَانَ قَيْصَرُ لَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْحِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِمَا أَبْلاهُ اللَّهُ فَلَمَّا جَاءَ
قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ حِينَ قَرَأَهُ الْتَمِسُوا لِي هَا هُنَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ لأَسْأَلَهُمْ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّهُ
كَانَ بِالشَّأْمِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا تِجَارًا فِي
الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَجَدَنَا رَسُولُ قَيْصَرَ بِبَعْضِ الشَّأْمِ فَانْطُلِقَ بِي وَبِأَصْحَابِي حَتَّى قَدِمْنَا إِيلِيَاءَ فَأُدْخِلْنَا
عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ وَعَلَيْهِ التَّاجُ وَإِذَا حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ)، وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ.
فَقَالَ (هرقل): أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟.
(قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا.
قَالَ: مَا قَرَابَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ فَقُلْتُ هُوَ ابْنُ عَمِّي؛
وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي).
فَقَالَ (هرقل): أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ
عِنْدَ ظَهْرِهِ ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ
هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، (قالَ أَبُو
سُفْيَانَ وَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ
أَصْحَابِي عَنِّي الْكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ حِينَ سَأَلَنِي عَنْهُ
وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الْكَذِبَ عَنِّي فَصَدَقْتُهُ).
قَالَ كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟، قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ.
قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟، قُلْتُ لا.
قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟، قُلْتُ لا.
قَالَ فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟، فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ.
قَالَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟، قُلْتُ بَلْ يَزِيدُونَ.
قَالَ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟، قُلْتُ لا.
قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟، قُلْتُ لا.
قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ؟، قُلْتُ لَا وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا
نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ
أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟، قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ فَكَيْفَ كَانَ
قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟، قُلْتُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ.
قَالَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟، قُلْتُ يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ
وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ
وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ.
فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ
أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ
قَوْمِهَا.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ
لا فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ
رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لا
قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ
يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لا فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
لِيَذَرَ – ليترك – الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ.
وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ
فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.
وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ.
وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ
فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لا وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ
بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ.
(وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ
فَعَلَ وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلا وَيُدَالُ عَلَيْكُمْ
الْمَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الأُخْرَى وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ
تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ).
وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ
عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ
وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ
قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ
أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ
لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ.
ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ
الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ
أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ
تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ{ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ
لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ
الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ
وَأُخْرِجْنَا، (قَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ ذَلِيلا
مُسْتَيْقِنًا بِأَنَّ أَمْرَهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ
قَلْبِي الإِسْلامَ وَأَنَا كَارِهٌ).
فكما نرى فإن في هذا الحوار من الأدلة العقلية الواضحة على نبوة محمد صلى
الله عليه وسلم ما لا تخفى على أحد وقد كان سببا في إسلام كبير قريش
أبوسفيان بن حرب رضي الله عنه ….
وهرقل كان يُريد بأسئلته تلك أن يعرف هل نبينا صلى الله عليه وسلم هو نبيٌ
صادق أم مدعي للنبوة …. وقد اتضح له بجلاء من أجوبة ابي سفيان – الذي كان
مشركاً حينها – أنه نبي صادق وأنه دعوته ستنتشر في الأرض وأن مُلك أمته
سيبلغ قصره الذي هو فيه وقد حدث ذلك في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله
تعالى عنه عندما فتح المسلمون بلاد الشام ….
فإلى هؤلاء المُشككين في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هل الصفات التي سمعها هرقل هي صفات صادق أمين أم مُدعِ للنبوة كما تزعمون ؟
~يـتـبـع~