أحدث الفتح الصاعق الذي تحقق في مجال الوراثة حالة من الإثارة الشديدة والحماس بين خبراء الحامض النووي DNA في جميع أنحاء العالم إذ باتوا يعتقدون الآن أن الكشف سوف يحدث نقلة حقيقية في قدرتهم على إصلاح الخارطة الجينية (جينوم) لسائر الكائنات الحية بما فيها الإنسان.
هذا التطوّر أشيد به على اعتباره علامة شاخصة على طريق العلوم الطبية لأنه يعد بتحقيق طفرة ثورية في دراسة وعلاج طائفة من الأمراض ،بدءاً من السرطان والأمراض الفايروسية المستعصية إلى الأمراض والاضطرابات الجينية الوراثية مثل أنيميا الخلايا المنجلية ومتلازمة داون.
فلأول مرة يتمكن العلماء من إعادة هندسة أي جزء يشاؤون من الخارطة الجينية للإنسان بدقّة بالغة باستخدام تقنية ثورية جديدة أطلق عليها "تقنية كرسبر". هذه التقنية يشبهها البعض بالقدرة على تعديل وتصحيح حرف واحد فقط أينما كان موقعه في أية صفحة من الانسايكلوبيديا من دون التسبب بحدوث أخطاء إملائية بسبب هذا التصحيح. هذا التطور الشاخص يعني، كما يعتقد العلماء، أن بالوسع الآن القيام بأشدّ التغييرات دقّة وتفصيلاً في أي موضع محدد من حامض DNA على الكروموسومات البشرية البالغ عددها 23 زوجاً من دون إحداث طفرات وراثية أو عيوب جينية غير مقصودة.
هذه التقنية دقيقة إلى حد أن العلماء يعتقدون بأن استخدامها سيمكن عما قريب في محاولات المعالجة الجينية على البشر أو معالجة الحالات الفايروسية المستعصية مثل فايروس نقص المناعة المكتسب (إتش آي في) أو الاضطرابات الجينية التي تتعذّر معالجتها في الوقت الحاضر مثل اضطراب هانتنغتون. ويطرح البعض إمكانية استخدامها في تصحيح العيوب الجينية في الأجنة البشرية المنتجة مختبرياً بتقنية الإخصاب الخارجي.
كانت أساليب العلاج الجيني، ولا تزال، تعتمد طرقاً تفتقر كثيراً إلى الدقة في إصلاح عيوب الخارطة الجينية، وهي تتضمن في أغلب الأحيان استخدام فايروسات معدّلة لإقحام حامض نووي على الخارطة الجينية بطريقة عشوائية – وهذه طرق تنطوي على مجازفات عديدة وخطيرة بالنسبة للمرضى.
أما الطريقة الجديدة فإنها قادرة، كما يقول الباحثون، على إصلاح الهندسة الجينية بفضل البساطة والسهولة الشديدتين التي تتيحهما لتعديل أي جزء نشأ من جزيئة DNA نزولاً إلى مستوى وحدات البناء الكيميائية المفردة، أو النيوكليوتايد، التي تعتبر بمثابة حروف الأبجدية
الجينية.
نصر حقيقي
يقول "كريغ ميلو" من الكلية الطبية في جامعة ماساشوستس، الذي حصل في العام 2006 على جائزة نوبل في الطب عن كشفه الجيني السابق المسمى تداخل حامض RNA بالمشاركة مع زميل له: "إن تقنية كرسبر شيء هائل مطلق، فهي فعّالة بشكل لا يمكن تصديقه ولها تطبيقات لا تعدّ، من الزراعة إلى المعالجات الجينية مستقبلاً في الإنسان. إنه نصر حقيقي للعلم الأساسي وهو أفضل من وجوه عديدة من أسلوب تداخل RNA. هذا فتح عظيم ستكون له تطبيقات جبارة في مجال الوراثة الجزيئية وسوف يؤدي إلى تغيير حقيقي في قواعد اللعبة، شيء لن تصدقه حتى تراه. فأنا ممن يقرأون المجلات العلمية مثل غيري، ولكني عندما رأيت التقنية وهي تعمل في مختبري ارتخى فكّي وتدلى دهشة وذهولاً."
يضيف البروفسور ميلو أن تقنية كرسبر، بالإضافة إلى قدرتها على هندسة الجينات في النبات والحيوان التي من شأنها التعجيل في تطوير المحاصيل والمواشي المعدّلة جينياً، لها القدرة على توطئة ما يسمى "العتبة" وبذلك تسهّل إجراء المعالجات الجينية على الخط الإنتاشي للأجنة البشرية من خلال تطبيق تقنية الإخصاب الخارجي مختبرياً (الخط الإنتاشي هو الصفات القابلة للتوارث والإنتقال من جيل إلى آخر يليه).
التغييرات التي تحدث للحامض النووي جرّاء المعالجة الجينية الإنتاشية للحيامن أو البويضات أو الأجنة بهدف التخلّص من الأمراض الوراثية تصبح قابلة للانتقال إلى جميع الأجيال اللاحقة، وهذا هو مصدر المخاوف المتعلقة بالسلامة التي جعلت بريطانيا وبلدانا كثيرة أخرى غيرها تحظر هذه الممارسة خشية ظهور ما يسمى "أطفال حسب التصميم".
أما الأسلوب الجديد في التعديل الجيني فإن من شأنه تسكين الكثير من دواعي القلق التي ذكرناها بفضل دقته الشديدة، لذلك يعتقد العلماء الآن أن المسألة لم تعد سوى مسألة وقت ثم لا يلبث أطباء الإخصاب الخارجي المختبري أن يعلنوا مطمئنين أن بالوسع استخدامه لمعالجة الأمراض الجينية في العوائل التي تعاني من مثل هذه المشاكل وذلك بإجراء التعديل على الحامض النووي DNA للجنين قبل زراعته في رحم الأم.
يقول "داغان ويلز"، وهو عالم من جامعة أوكسفورد متخصص بتطبيقات "الإخصاب الخارجي المختبري: " إذا ما نجحت التقنية الجديدة في فتح الباب أمام إجراء التصحيحات واستهداف الجينات المعيبة بشكل تام وسليم، وتمكنت من أزالة أسباب القلق على السلامة، فإن الذي سيبقى بين أيدينا هو الأمل بأننا سنتمكن مستقبلاً من تطوير وتطبيق معالجات دقيقة للخط الإنتاشي وتخليص العوائل وأجيالها اللاحقة من اضطرابات وراثية ذات نتائج مدمّرة."
ويمضي الدكتور ويلز مجادلاً: "سيكون من الصعب على أي شخص أن يحتج أو يعترض على استخدام هذه الطريقة إذا ما ثبت أنها مأمونة ومعتمدة وفعّالة كما توحي للوهلة الأولى. إذ هل يستطيع أحد أن يحكم على طفل بأن يعيش عذاباً يفوق الخيال، وربما حتى بالموت المبكر، بينما العلاج موجود وقادر على إصلاح المشكلة؟"
نظام يمكن تطويعه
تعتمد تقنية "كرسبر" على طريقة تلجأ إليها البكتريا كدفاع مناعي طبيعي ضد الفايروسات التي تحاول غزوها. ولكن البروفسورة "جنيفر داودنا" من جامعة كاليفورنيا نشرت في العام الماضي نتائج دراسة مثير أظهرت فيها أن نفس هذا الأسلوب يمكن أن يستخدم لاستهداف أية نقطة في الخارطة الوراثية استهدافاً عالي الدقة بمساعدة إنزيم قص قاطع يسمى "كاس9" (CAS9).
منذ ذلك الحين تمكنت فرق علمية عديدة من إثبات أن نظام (كرسبر– كاس9) الذي استخدمته البروفسورة داودنا يمكن تكييفه وتطويعه للعمل على مدى واسع من الكائنات الحية، من النباتات وديدان النيماتود إلى ذباب الفاكهة وفئران التجارب.
في وقت مبكر من هذا العام برهنت فرق العلماء على أن بالمستطاع أيضاً استخدام التقنية بدقّة في هندسة حامض DNA لدى أجنة الفئران وحتى في الخلايا الجذعية للإنسان المنتجة بالزرع داخل المختبر. وقد صعق علماء الوراثة حين رأوا مدى السهولة والدقة والفعّالية العالية التي يتمتع بها النظام في تعديل الشيفرة الوراثية في سائر أشكال الكائنات الحية، كما أدركوا على الفور آفاقه العلاجية المستقبلية المتوقعة في الجانب الطبي.
معالجة اضطرابات جينية خطيرة
يقول الدكتور "جورج تشرتش" وهو أستاذ مختص بالوراثة من جامعة هارفارد وكان على رأس أحدى الفرق التي استخدمت تقنية كرسبر لتعديل الخارطة الجينية للإنسان لأول مرة: "كفاءة هذا النظام وبساطته لم يسبق لهما مثيل من قبل على الإطلاق، وإني لأكاد أثب خارجاً من جلدي لشدّة شعوري بالحماس والإثارة. فهذه التقنية الجديدة سوف تسمح، كما يفترض، بإصلاح ومعالجة اضطرابات جينية خطيرة. من حيث المبدأ سوف يمكن القيام بهذا الإصلاح في أية مرحلة من مراحل التطور، بدءاً من الحيمن والبويضة والخلايا المخصبة خارجيا داخل المختبر حتى المراحل النهائية القصوى من المرض التي لا يمكن عكس نتائجها."
يضيف الدكتور "ديفد آدامز"، وهو عالم مختص بدراسة الحامض DNA من معهد "ويلكوم ترست سانغر" في كامبرج أن التقنية لها القدرة المستقبلية على تغيير الطريقة التي يتمكن بها العلماء من التصرّف بجينات الكائنات الحية كلها، وخصوصاً اولئك الأشخاص المبتلون بأمراض وراثية.
يقول الدكتور آدامز: "هذه هي المرة الأولى التي نتمكن فيها من تعديل الخارطة الجينية بكفاءة ودقّة بمستوى يتيح لنا إصلاح الطفرات الوراثية حتى لدى المريض الواحد. لقد كانت عندنا في الماضي تقنيات لتعديل الخارطة الجينية، ولكنها كلها يمكن أن تخلف ندباً وراءها أو حامضاً نووياً غير معروف وهذه لها محاذيرها. أما هذه التقنية فإنها لا تخلف أية ندب وبوسعك عن طريقها أن تغيّر وحدة نيوكليوتايد مفردة من حامض DNA وكأنك تصلح حرفاً واحداً من الكتاب الجيني الكامل بدون أن تحدث أية تغييرات أخرى في النص غير مرغوب بها."